أزمة النائب العام أسقطت أقنعة كثيرة وأظهرت مجددًا ما لم يغب عنا من أن الحق سيبقى في تدافع مع الباطل إلى يوم القيامة. (وليسم ذلك راديكالية من يحب). لقد سقط من يحبون أن يروا كخصوم لجماعة الإخوان فقط أو حتى للجماعات الإسلامية كلها، وكثير منهم في الحقيقة من ألد خصوم المشروع الإسلامي برمته. تعرف ذلك من لحن قولهم وسوء فعلهم وشدة بغيهم. لو كان واحد من فسطاطهم هو من أبعد النائب العام عن هذا الموقع الخطير لجعلوا ذلك من بطولاته الخالدة، فما هو إلا النائب الذي عينه مبارك في زمنه سيء السمعة، والذي لو كان ينتصر فيه للمظلوم من الظالم لما قامت الثورة أصلاً. ثم دعك من عدم إتقان الرئاسة لإدارة هذا الملف، ومن كون البعض إنما أراد أن يدافع عن مبدأ استقلال القضاء، (ومنهم من رفعوا عقيرتهم من قبل مرارًا بطلب عزل النائب ومن سكت عن ذلك)، ولكن أما كان حسن القصد من جهة الرئيس وصحة المقصود كافيين حتى يخفف هؤلاء من عدوانهم وصيالهم ويتعاملوا مع الأمر بشيء من الموضوعية والتحضر الذي لا يملون من الحديث عنه، وما نزال نفتش عنه في سلوكهم فلا نجده إلا قليلاً. إنهم يجرون الوطن للخراب غير مبالين، فكل ما يهمهم إسقاط الإسلاميين، وإن كان ذلك على حساب أمن الوطن واستقراره، وكأنهم إن خرقوا السفينة تركناها لهم ليصلحوا الخرق ويمضوا بها إلى حيث يشاؤون ... هيهات ... ولكنهم لا يعلمون.
إن هذا ينبغي أن يعلمنا نحن أبناء الصحوة الإسلامية شيئًا مهمًا: فلنبن الجسور، ولكن إذا جد الجد فلنلزم فسطاطنا.
يجب أن نكون ساعين إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة وبناء الجسور مع مخالفينا. ينبغي أن نكون أرحم الناس بالناس وأكثرهم حدبًا عليهم وحرصًا على الأوطان. كما ينبغي ألا نتعالى بذواتنا على أحد، وأن نكون مدركين تمامًا أن بعضنا قد يخطئ فيما يصيب فيه الآخرون من غير الإسلاميين، أو من يحبون أن يسموا أنفسهم بالقوى المدنية. مع كل ما سبق مما اعتقده ديانة وسياسة، فإنني أعتقد أيضًا أنه لا بد من أن يحدد كل واحد منا موضعه من الساحة الفكرية والسياسية وأن يعرف مكان فسطاطه الذي يأوي إليه كلما جد الجد.
إنما أقول ذلك لأن كثيرين منا نحن الإسلاميين أو المتدينين عمومًا يصعقوننا أحيانًا بتلون مواقفهم حتى نكاد نجزم - مع حسن النية بهم - أنهم في عماية تامة أو أنهم لم يحددوا ابتداءً إحداثيات موضعهم من الخريطة الكبرى لمعركة الحق والباطل. إن الذي لم يفعل ذلك سيجد نفسه دائمًا مشتتًا مضطرب الفكر، ستروج عليه أباطيل المرجفين، وليس هذا فحسب، بل الأخطر أن عندنا نحن الإسلاميين من الخطأ والخطيئة والعجز والارتباك وقلة الحيلة ما قد يفتن البعض منا ممن لا يرى الصورة الكاملة، فتجده تأثر بسلوك جماعة ما أو جمعية أو حزب أو طائفة أو بعض أعضاء تلك الكيانات، فيزين له الشيطان أن واجب المرحلة هو التفرغ للإنكار عليهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، وقد يبقى في جهاده هذا أعوامًا يخدم في فسطاط خصوم المشروع الإسلامي، متعاميًا عما فيهم مما هو شر مما عندنا وأخطر، ولو أنصف لأدرك على الأقل أنه "في كل واد بنو سعد"، ومن ثم عاد إلى قومه، ولكنه يتحرج أو يستكبر أو يبقى من ركن إليهم يؤزونه على أداء هذا الدور "البطولي" أزًا، حتى توافيه المنية هناك، فبئست الخاتمة.
وبخلاف المفتونين بعيوبنا الكثيرة، فهناك صنوف أخرى كثيرة منا مواقفهم كذلك شديدة الاضطراب. فبعضنا مثلًا قد يكون منهمكًا في بناء الجسور مع الآخرين، ومع تقديرنا لذلك وحبنا له، إلا أن كلا طرفي قصد الأمور ذميم. وهذا البنَّاء سيكون مخطئًا إن هو انهمك في بناء تلك الجسور حتى ينسى موضع فسطاطه، وفي أوقات الفتن يعمى المبصر، فما بالك بالأعشى بله الأعمى.
وبعضنا يريد أن يكون محبوبًا لكل الناس، والمسكين لا يدري أن الجمع بين ذلك، إن أمكن، وبين أن يكون محبوبًا لله أمر مستحيل. هذا يرى الإيمان دون الكفر والحق دون الباطل والخير دون الشر والجمال دون القبح، فلا تجده أبدًا إلا هاشًا باشًا لا يتمعر وجهه لشيء ولا ينتصر لحق. وفتنته أنه يظن ذلك من تمام التدين، ولو كان كذلك لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - أولى به منه، وقد عرف من له أدنى مطالعة لسيرهم أنهم كانوا يغضبون لله وينتصرون للحق.
أما الطرقيون المعاصرون في مصر وهم أبعد شيء عن صوفية الجنيد والجيلاني وأمثالهم من الأولياء - فلا تعجب مما تراه من غرائبهم، فمنهم من ليست الشريعة في حساباتهم أصلًا ولا هم يلوون على شيء ما سلمت لهم صناديق النذور وحرية إقامة الموالد.
وهناك "التقليديون"، وفي الأزهر الشريف كثير منهم، ولقد صدمني أحدهم مرة إذ قال لي إن القضية في انتخابات مجلس الشعب ببلدهم مدارها عند أكثر الناس - وهو أحدهم - على التوازنات بين العائلات، وحدثني أنه شخصيًا قد مال في مرحلة ما إلى انتخاب أحمد شفيق! إن هؤلاء تجسيد لمأساة الفصل النكد في واقع أمتنا بين الدين والحياة، حتى صار هذا الانفصام في عقل الشخص الواحد، فكأنني إذ أستمع إلى هذا الشيخ أسترجع قصة الدكتور جيكل والسيد هايد.
وهناك دعاة يركزون على الجانب الحضاري والأخلاقي في المشروع الإسلامي، وأكثرهم أصحاب صدق ووعي بواقع العالم والتحديات الجسام التي تواجه المسلمين الذين يحتاجون إلى ثورة أخلاقية عظيمة لتنصلح أحوالهم. ولهؤلاء جهود نافعة في التصدي لما يغفل عنه كثير من الإسلاميين الآخرين، ولكن في النهاية، فإن الإسلام لم يأت لبناء حضارة أخلاقية فحسب، وكذلك فإن الشريعة مع حسن فهمها والحكمة والتدرج في تطبيقها ستكون أعظم دافع لتلك المسيرة الحضارية الأخلاقية. إن هؤلاء إلم يعرفوا مكانهم في الصف، فلا أدري ما الفرق بينهم - من هذه الجهة - وبين كل داع إلى الحق والخير والجمال من سائر الملل والنحل.
الخلاصة أنه قد تكون لبعضنا قناعات مختلفة بشأن الأولويات وتحفظات على بعض المسارات ورؤى متباينة واجتهادات، ولكن متى تراص الصفان، فلا بد ألا تتردد لحظة حتى يتساءل الناس في أيهما ستقف، وشر من ذلك أن تكون أنت المتسائل.
يا قومنا أجيبوا داعي الله، وانتصروا لشرع الله، وأحسنوا إدارة خلافاتكم، وأخرجوا منها حظوظ أنفسكم، ورصوا صفكم - ألا ترونهم يأتونكم صفًا!
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين
منقول/ جريدة الوسط
د. حاتم الحاج
د. حاتم الحاج