الخميس، 21 فبراير 2013

نصيحة شرعية واجبة لمؤسسة الرئاسة

في هذه الأوقات التي تمر فيها بلادنا بأزمة عميقة واختلاف شديد، لا يسعنا إلا أن نرجع إلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وسننه في الحكم والسياسة. إنه من غير المقبول أن يظن كثيرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا هديا كاملا وسننا مطهرة في الطعام والشراب والجماع ودخول الخلاء، ولم يترك لنا هديا كاملا وسننا مطهرة في الحكم والسياسة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصية جامعة للأمة:

"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (صحيح ابن ماجه – وصححه الألباني وغيره).

سياق الحديث يوجب أن يكون في باب الحكم والسياسة، ويخص به في حال الاختلاف الشديد (كحال بلادنا الآن) ويبين أن المخرج منها التمسك بالسنن النبوية في الحكم والسياسة وكذا سنن الخلافة الراشدة في الحكم والسياسة. ويوجب قوله (عضوا عليها بالنواجذ) ضرورة التمسك بهذه السنن والحرص عليها والتعلق بها. كما يوجب قوله (كل بدعة ضلالة) حكما عاما، ولكن السبب الخاص الذي ذكر في سياقه، هو الابتداع في أساليب الحكم والسياسة بما يخالف السنن النبوية وسنن الخلافة الراشدة.

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم "أول ما يغير سنتي رجل من بني أمية" (صححه الألباني وحسنه كثير من أهل العلم)، ومعلوم أن بني أمية لم يغيروا سننا في العبادات أو المعاملات، وإنما غيروا سننه في الحكم والسياسة. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم "يا كعب بن عجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال وما إمارة السفهاء ؟ قال أمراء يكونون بعدي يهدون بغير هداي ويستنون بغير سنتي" (صححه الحافظ بن حجر). هذه الأحاديث وغيرها تتحدث عن سننه المطهرة في الحكم والسياسة، وينطبق عليها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ" (رواه البخاري).

فما هي السنن النبوية التي يجب أن تفيئ إليها الأمة الآن لتنتشلها من حيرتها، وتجمع قلوبها على كلمة سواء وخطة محكمة؟ وما هي سنن الخلفاء الراشدين التي أمرنا الصادق المصدوق باتباعها والعض عليها بالنواجذ؟

إن هذا الباب جدير بالتأمل والبحث وحقيق بالاستقصاء والاستنباط، لتنزيله على واقعنا الحرج الذي نعيشه، ويحتاج إلى جهود علمائنا وفقهائنا بصورة عاجلة لنتبين طريقنا ونوحد رؤيتنا. إن هذا يتطلب النظر في الآثار الصحيحة الواردة في هذا الباب من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، كما يتطلب النظر في سيرته المطهرة الثابتة وسيرة الراشدين في هذا الباب وهي كثيرة متنوعة بفضل الله تبارك وتعالى.

أختار في هذا البحث القصير لقطة من السيرة النبوية المطهرة تشبه إلى حد كبير ظروفنا الحالية في وجوه كثيرة (وتختلف عنها أيضا في بعض الوجوه) واجتهد في القياس عليها، واستنباط الهدي النبوي من خلالها امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم (فعليكم بسنتي). أختار سيرته المطهرة في الأسابيع والشهور الأولى من بناء دولة الإسلام في المدينة المنورة.

عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، بدأ على الفور في تأسيس أول دولة للإسلام. كانت التحديات في وجه تلك الدولة الوليدة هائلة. وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخريطة السياسية للمدينة متنوعة ومتشابكة، ووجد فيها ثلاث قوى متمايزة، لكل منها مشاكلها وتحدياتها، وكان من الضروري أن يضع لكل منها سياسة تناسبها من حيث وسائل التعامل، ومن حيث الرؤية بعيدة المدى (الاستراتيجية).

كانت المدينة بها ثلاث قوى واضحة:
• المسلمون (المهاجرون والأنصار)
• اليهود (وكانوا قد استقروا في المدينة منذ حوالي خمسة قرون)
• المشركون (وكانوا يمثلون أكثر سكان المدينة الأصليين، وما يجاورها من القبائل المتناثرة في ضواحي المدينة)

أولا: المسلمون
وقد كانت لهم ثلاث مشكلات رئيسية. الأولى أنهم لأول مرة تتكون لهم دولة ومجتمع جديد أمره بأيديهم وليس بأيدي أعدائهم، وهذا يتطلب مقتضيات لم يعرفوها في مكة. كان عليهم تكوين دولة من الصفر لرعاية مصالحهم وحوائجهم الملحة. المشكلة الثانية كانت اندماج شطري المسلمين من المهاجرين والأنصار، وعاداتهم وطبائعهم وتحالفاتهم مختلفة. والمشكلة الثالثة الملحة كانت في أوضاع المهاجرين الاقتصادية وقد هاجروا وتركوا كل ما يملكون، وهم بطبيعتهم لا يجيدون إلا التجارة والرعي، ولا يعرفون الزراعة التي كان يعيش عليها أكثر أهل المدينة.
تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الملف بحكمة بالغة، وأعطى كل مشكلة حقها من الرعاية والتدبير، وبما يناسبها من حلول عاجلة، أو حلول متأنية استغرقت سنوات عديدة. أمر المهاجرين ومعاناتهم المعيشية لم يكن ليحتمل الانتظار فآخى بين عدد منهم وبين أمثالهم من الأنصار (حوالي تسعين في مجملهم) في خطوة لم تعرفها البشرية من قبل، حيث آخى بينهم على المواساة، إلى درجة التوارث بعد الموت دون ذوي الأرحام (إلى غزوة بدر، حيث نسخ هذا برد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة بقوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله).

لم تكن أحوال الأنصار من السعة بحيث يمكن تكليفهم بأكثر من ذلك، لكن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استثارة مشاعر المواساة والإكرام والإيثار فيهم بالترغيب الشديد وتقوية ثقتهم بما عند الله عز وجل وكان يقول لهم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ويقول (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ويقول (طعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية) ويقول (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ويقول (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، ويقول (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وغيرها كثير جدا. وكانت آيات القرآن تتنزل تترى تدفع في نفس الترغيب (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) وغيرها كثير جدا. وقد تفاعل الأنصار مع هذه الحملة الإيمانية العظيمة، وقال بعضهم للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.

ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقا مكتوبا ينظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار ويضع الضوابط الحاكمة في حال الخلاف والنزاع، وكانت هذه الوثيقة من 16 بندا (وهي بمصطلحنا المعاصر دستورا يضبط العلاقات بين أفراد الدولة الوليدة).

ثانيا المشركون:
وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزة كبيرة وعيبا خطيرا في مشركي يثرب. أما ميزتهم فإنهم لم تكن لديهم عداوة مستحكمة ضد الإسلام والمسلمين، ولم يكونوا في هذا يشبهون مشركي قريش الذين كانوا يدافعون عن سيادتهم الدينية وأوضاعهم الاقتصادية التي ملأتهم حنقا وبغضا للمسلمين. لذلك توجه لهم بالدعوة إلى الله، ورغب أصحابه في دعوتهم، وبالفعل لم تمض شهور حتى كان معظمهم قد دخل في الإسلام. وبقيت بقية التفوا حول عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان على وشك أن تتوجه يثرب ملكا عليها، فلما قدم المسلمون انصرف عنه أهل يثرب من الأنصار، فكانت في حلقه غصة من الإسلام والمسلمين، وبه وبأنصاره بدأ أمر المنافقين في المدينة. وهذه فئة أخرى اعتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواجهتها في مرحلة لاحقة عندما ظهرت وبدا شرها.
أما العيب الخطير الذي كان في مشركي يثرب، فكان ولاؤهم الديني لكفار قريش، إذ كانت عواطفهم الدينية خاضعة لهم، وهذا يعني امتثالهم لأوامر قريش إن أمروهم بشرٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المشركون كانوا يسكنون ملاصقين للمسلمين، فضلا عن قبائل كانت تحيط بالمدينة، وكانوا يمثلون خطرا محدقا إن فكرت قريش في استخدامهم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحسب لهذا الخطر المحيط، وكان ينام تحت الحراسة، وكان أصحابه في السنة الأولى للهجرة يبيتون في السلاح، حتى قال قائلهم "الدهر كله هكذا ؟!". وقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخطر الماثل، بتسيير دوريات استطلاع واستكشاف حول المدينة من أجل تأمين حزام المدينة والطريق الرئيس المؤدي إليها. وفي سبيل ذلك بث العيون وأرسل السرايا المختلفة في طلعات متتابعة، وخرج هو بنفسه في عدة غزوات خاطفة لنفس الغرض، ولتثبيت هيبة المسلمين في نفوس اليهود والمشركين، وليرسل رسالة إلى قريش مفادها أن المسلمين لن يكونوا لقمة سائغة، إذا ما فكرت قريش في العدوان. وبالإضافة إلى ذلك عقد عدة معاهدات عدم اعتداء، أو معاهدات دفاع مشترك مع العديد من القبائل التي تحيط بالمدينة.

ثالثا: اليهود
كانت أشهر قبائل اليهود: قينقاع (وسكنوا المدينة) وخيبر وبنو النضير وقريظة (وسكنوا ضواحي المدينة). وكان اليهود لطول مكثهم بالمدينة وضواحيها قد اصطبغوا بالصبغة العربية في بعض عاداتهم، ولكنهم لم يندمجوا أبدا مع العرب نظرا لكبرهم وتعاليهم العنصري. وقد أسروا العداوة للإسلام والمسلمين من أول يوم قدم فيه المسلمون إلى المدينة، ورأوا فيهم تهديدا حقيقيا لمصالحهم، ولتلاعبهم الدائم بعرب المدينة وإشعالهم المستمر للحروب بينهم. ولكن اليهود آثروا كتمان هذه العداوة ومداهنة المسلمين ريثما يتدبروا أمرهم وينظروا كيف يكيدون لهم. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظهروه من المسالمة والموادعة، عاهدهم بوثيقة تاريخية (وثيقة المدينة) تضع أطر التعايش السلمي بين المسلمين واليهود في مدينة واحدة، وهو حدث لم تعرفه البشرية من قبل، إذ كان عهدها ألا يجتمع دينان أو عصبيتان في بلد واحد دون أن يُقصي أحدهما الآخر ويدمره ويقضي عليه.
هذه الوثيقة التاريخية تكونت من 12 بندا، تمت صياغتها بدقة شديدة تكفل حفظ الحقوق المتبادلة، والدفاع المشترك ضد العدو الخارجي، وعدم التحالف مع أعداء أي من الطائفتين، وأن تكون الشئون المالية مستقلة لكل طائفة. وقد أعطت هذه المعاهدة متنفسا للمسلمين يؤمنون به ظهورهم، بحيث لا يضطرون لمواجهات متزامنة على عدة جبهات. إن تأمين جبهة اليهود أراح الدولة الناشئة في أحرج أوقاتها في السنة الأولى للهجرة ومكنها من متابعة الملفين الآخرين دون أن تتشتت جهود المسلمين.

لا أبالغ إذا قلت إن حال مصر الآن يشبه إلى حد كبير حال المسلمين في أول عهدهم بالمدينة. مصر الآن تعيش نقلة كبيرة بعد قرون من ضعف الأمة الإسلامية، وبعد تنحية الشريعة لعقود طويلة. لقد عانت مصر طوال قرن كامل – على أقل تقدير – من سيطرة النخبة العلمانية التي هيمنت على مفاصل الدولة، وتحكمت في كل منابر التأثير. مصر الآن تتشابك على أرضها مصالح معقدة وارتباطات إقليمية ودولية لا يمكن إغفالها. إن درس السيرة النبوية المطهرة في تلك الفترة العصيبة يمكن استنباط الفوائد التالية المباشرة منه:
• وجوب التمييز والفرز لمكونات المشهد السياسي ووضع الخطط الاستراتيجية والآنية للتعامل معها كلٌ بحسبه.
• البدء بالمشاكل الأكثر إلحاحا والتي لا تحتمل الانتظار.
• إلهاب حماسة المؤمنين ودوام بث الثقة في ما عند الله تعالى في نفوسهم.
• عدم الدخول في مواجهات على كل الجبهات في آن واحد، وتحييد ما أمكن تحييده حتى لا تتبعثر قوانا وإمكانياتنا المحدودة.
• الاهتمام بالجانب الإعلامي لتأثيره البالغ في النفوس، فقد كانت طلعات المسلمين المتتابعة لتأمين محيط المدينة والطريق الرئيس المؤدي إليها يلقي الهيبة في نفوس الآخرين، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية استطلاعية صغيرة إلى بطن نخلة في عقر دار مشركي قريش (على بعد 500 كيلو متر من المدينة) مما كان له أبلغ الأثر في إظهار قوة المسلمين وثقتهم.
• الأخذ بكل الأسباب المتاحة وعدم التهاون فيها، وأخذ الحيطة والحذر من كل احتمالات ولو بعيدة، وعدم الركون إلى ظن "التمكين أو التمكين الجزئي"، وإشاعة هذه الروح في كل الغيورين على مصالح البلاد. وتأمل قول عائشة رضي الله عنها (مع صغر سنها آنذاك) وهي تروي (كما في الصحيحين) تقول: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقدمَه المدينةَ ، ليلة . فقال "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسُني الليلةَ " قالت : فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشةَ سلاح . فقال " من هذا ؟ " قال : سعدُ بن أبي وقاص . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما جاء بك ؟" قال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتُ أحرسُه . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. فحالة الحذر والترقب والحيطة كانت عامة.

إن مصر دولة ضخمة وقيمة كبيرة في هذا العالم، ولا يمكن تصور التصدي لهذا الركام الضخم الموروث من عهود الاستبداد والضعف، بفريق محدود، أو بخبرات محدودة. إن الأمر أعظم من ذلك، وأخطر من ذلك. الأمر يستوجب فريق عمل لكل مُكوِّن على حده، بحيث يتخصص ويركز على أفضل السبل للتعامل وحل الإشكاليات الملحة والبعيدة المدى، وبحيث تنتظم كل هذه الفرق تحت رؤية سياسية كاملة.
إن فرق العمل المقترحة ستكون لها أبعاد مختلفة. بعد سكاني، فريق يختص بسكان الصعيد، وآخر لسكان مدن القناة، وغيره للمدن كثيفة السكان والمدن النائية .. وهكذا. وبعد سياسي، للتعامل مع التيارات الإسلامية والليبرالية والقومية والائتلافات الشبابية والمجموعات الصغيرة على حواف المشهد السياسي. ثم بعد موضوعي للمشاكل الأمنية والاقتصادية والعلاقات الخارجية والعدالة الاجتماعية والخطاب الديني .. إلخ. ثم فريق للرصد والبحث ودعم اتخاذ القرار، وفريق أخير لرسم هذه الاستراتيجيات وتسكينها في هيكل المؤسسة. مؤسسة الرئاسة ينبغي أن تكون أهم مؤسسات الدولة على الإطلاق، وأن يكون بناؤها من الصلابة والتماسك والتناغم بحيث يمثل قاطرة التنمية والانطلاق للمستقبل.

إن استصحاب السنن النبوية المطهرة وسنن الخلافة الراشدة في كل شئون الحكم والسياسة فرض شرعي وضرورة لا غنى عنها لاستمطار رحمة الله وطلب نصرته وتأييده.

د. محمد هشام راغب
https://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق