تريد واشنطن إرساء ميزان قوى إقليمي يمنع أي قوة أو تحالف من داخل المنطقة أو خارجها من إعاقة تدفق النفط إلى الأسواق العالمية عن طريق الوسائل العسكرية، كما يريد الأميركيون صون أمن إسرائيل ويتمنون على المديين المتوسط والطويل نشوء أنظمة مستقرة وديمقراطية.
يشهد الشرق الأوسط وضعاً مشتعلاً! بينما تجتاح الاضطرابات الشعبوية والعرقية والدينية أرجاء المنطقة، تعيش الأنظمة القائمة منذ فترة طويلة تخبطاً كبيراً وتتأجج الصراعات العنيفة في الدول التي كانت هادئة في الماضي، ويبدو أن جميع القواعد أصبحت واردة.
توشك عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين أن تنهار تماماً وتتجه إيران تدريجياً نحو اكتساب أسلحة نووية، وحتى لو شدد الرئيس أوباما على دعمه لإسرائيل وأكد أنه لن يسمح لإيران بالحصول على أسلحة نووية، كما قال في الأسبوع الماضي، تتحدث إدارته عن “التحرك من وراء الكواليس” و”التوجه نحو آسيا”.
يعتبر بعض المراقبين أن هذه التطورات كلها تعكس تراجعاً حاداً في النفوذ الأميركي، لكن الواقع أكثر تعقيداً وأقل مأساوية. عملياً، لا تزال الولايات المتحدة أعظم قوة في المنطقة وستبقى ملتزمة بهذا الدور لفترة طويلة مستقبلاً.
وسط هذه الاضطرابات والانتفاضات كلها، يسهل الإغفال عن نقطة أساسية: لا تزال المصالح الأميركية في الشرق الأوسط بسيطة ووضعها جيد نسبياً. تريد الولايات المتحدة إرساء ميزان قوى إقليمي يمنع أي قوة أو تحالف من داخل المنطقة أو خارجها من إعاقة تدفق النفط إلى الأسواق العالمية عن طريق الوسائل العسكرية. كذلك، يريد الأميركيون صون أمن إسرائيل ويتمنون على المديين المتوسط والطويل نشوء أنظمة مستقرة وديمقراطية يمكن أن تعزز النمو الاقتصادي وأن تضمن السلام.
ستتحرك الولايات المتحدة بشكل مباشر وأحادي الجانب لتحقيق هذه الأهداف إذا اضطرت لذلك، لكن نظراً إلى مسؤولياتها العالمية وتعدد المسائل التي ترتبط بها، تميل الولايات المتحدة بطبيعتها إلى تقاسم الأعباء مع غيرها. لذا هي تفضل التعاون مع حلفائها وشركائها، وتحديداً الإقليميين منهم.
في الشرق الأوسط اليوم، تحظى الأهداف الأميركية بدعم واسع وغير مسبوق، فقد انضم العالم العربي السُّني إلى أوروبا للتصدي لإيران والعمل على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وقد تشكّل تحالف قوي لدعم أهم أولويات واشنطن في الشرق الأوسط: وقف المد الإيراني للهيمنة على المنطقة وكبح برنامج طهران النووي.
أدانت فرنسا وجامعة الدول العربية الولايات المتحدة عندما غزت العراق في عام 2003. لكن في عام 2011، دعمت هذه الأطراف نفسها مهمة إسقاط معمر القذافي في ليبيا. ترددت تركيا في تأييد ذلك التحرك ولكنها عادت وانضمت إلى هذا المعسكر. مع اشتداد حدة الأزمة في سورية اليوم، تحصل الأهداف الأميركية على دعم هائل في أنحاء المنطقة.
إذا كانت هذه التطورات تعني تراجعاً في النفوذ الأميركي، فلا مانع من حصول هكذا تراجع!
لكن من يظنون أن الولايات المتحدة تستطيع الآن تركيز كامل اهتمامها على آسيا، مع تجاهل الشرق الأوسط المضطرب، يغفلون عن درجة ارتباط المصالح الأميركية بمصير هذه المنطقة. في الأسابيع الأخيرة، أدى تصاعد الاضطرابات في الشرق الأوسط إلى رفع سعر الوقود في الولايات المتحدة. لا شك أن أي ارتفاع إضافي في الأسعار سيثير استياء الناخبين وسيخيف المستهلكين وسيزعزع عملية التعافي الاقتصادي التدريجي في الولايات المتحدة.
بالنسبة إلى الرئيس أوباما، ستؤدي هذه التطورات إلى إضعاف جهوده الرامية إلى إعادة انتخابه. ينطبق الأمر نفسه على كل مسؤول سيخلفه في الحكم. حتى لو خفّضت الولايات المتحدة اتكالها المباشر على نفط الشرق الأوسط، لن يتمكن الرؤساء الأميركيون من التخلي عن هذه المنطقة بسبب طبيعة سوق النفط العالمية وتداعيات نقص إمدادات الأسواق الكبرى الأخرى التي تؤثر في الاقتصاد الأميركي نظراً إلى انتشار ظاهرة “عولمة التجارة”. باختصار، يسهل التوجه نحو آسيا لكن يصعب الاستغناء عن الشرق الأوسط. عملياً، ستضطر الولايات المتحدة إلى تحمّل مسؤوليات متعددة في الوقت نفسه.
بدأت الحكومة الأميركية تلعب دوراً رئيساً في سياسة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية. (في أواخر الحرب العالمية الأولى، بقيت الولايات المتحدة بعيدة عن هذه المنطقة ورفضت إعلان الحرب على السلطنة العثمانية وتفويض عصبة الأمم بإدارة أرمينيا وفلسطين). لم يكن ذلك الدور ساراً في أي يوم. خلال معظم فترات الحرب الباردة، كان الرأي العام في الشرق الأوسط يفضّل السوفيات. ولم تكن العلاقات الأميركية مع إسرائيل تحظى بأي تأييد في الدول العربية. ثم سقطت الأنظمة الصديقة التي خلّفتها الحقبة البريطانية في بلدان عدة، واستلمت الحكم أنظمة دكتاتورية متطرفة ومعادية للولايات المتحدة.
غيّرت الولايات المتحدة تحالفاتها مرات عدة خلال الحرب الباردة. فأصبحت مصر مؤيدة للغرب ثم تحولت إلى النزعة القومية الاشتراكية المتطرفة قبل أن تعود إلى أحضان الغرب في أواخر السبعينيات. على صعيد آخر، تحولت إيران والعراق من أقرب حلفاء الولايات المتحدة إلى ألدّ أعدائها. كذلك، لم تكن الدول الخليجية والمملكة العربية السعودية تحديداً تكنّ المودة للولايات المتحدة، لكن كانت مصالح الطرفين متقاربة لدرجة أنّ تحالفاتهما ازدهرت رغم تدهور الصداقة بينهما.
اليوم، بدأت التحالفات تتبدل مجدداً وبطريقة غير متوقعة، فأصبحت تركيا والولايات المتحدة حليفتين متقاربتين أكثر مما كانتا عليه منذ ثلاث سنوات، بينما تباعدت مصر والولايات المتحدة. أما المملكة العربية السعودية، فقد نفد صبرها بسبب اعتدال الموقف الأميركي من إيران، وهي تتفق بذلك مع الموقف الإسرائيلي في الملف الإيراني.
في حال تبدل الظروف السياسية في إيران، قد يتغير المشهد مجدداً. قبل عام 1979، كانت الولايات المتحدة وإيران حليفتين مقربتين. قد تسعى القيادة الجديدة في طهران إلى إعادة ترميم تلك العلاقة. من المتوقع أن ينقسم العالم السنّي إذا تراجع التهديد الإيراني، ولا شك أن بعض الدول السنية سترغب في كسب الدعم الأميركي للاحتماء من أطراف أخرى.
حتى هذه اللحظة على الأقل، يبدو أن الماضي يزخر بالمؤشرات التي تحدد معالم المرحلة المقبلة في ما يخص الالتزام الأميركي في الشرق الأوسط. بغض النظر عن المواقف والمشاعر المتناقضة تجاه الولايات المتحدة، يبقى هذا البلد لا غنى عنه بالنسبة إلى ميزان القوى في المنطقة وأمن الدول الهشة التي تنتج النفط في الخليج. في الشرق الأوسط، تكثر الأطراف التي تريد انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، وتكثر في المقابل الأطراف الأميركية التي تريد الرحيل بدورها.
لكن حتى الآن، يجب أن يتعلم الفريقان تقبّل خيبة الأمل لأنّ أياً من أمنياتهما لن يتحقق.
نقلا عن
Walter Russell Mead
Walter Russell Mead
وول ستريت جورنال