الربيع العربي الذي هز الدنيا وأحدث تغيرا جذريا في السياسات العالمية لم يغير شيئا بالسياسة الأمريكية؛ إلا إلى الأسوأ.. إذ تحاول الولايات (المعتدية) الأمريكية أن تجهض الثورات العربية، ولا تُخفي أن ذلك لصالح العدو الصهيوني. وعلى الرغم من فضح تآمرها على مصر وثورتها في قضية التمويل الأجنبي فلا تزال الإدارة الأمريكية تتآمر على مصر وتهدد بوقف معونتها البائسة التي تضر أكثر مما تفيد. فهل نسي الساسة الأمريكيون أن العرب (بنفطهم المنهوب) هم أصحاب الفضل عليها في قوة عملتها وسيطرتها على معظم العالم، وأنه قد آن الأوان- بعد الربيع العربي- لتعديل هذه الصفقة الجائرة؟.. أم أن هؤلاء الساسة (بستهبلون)؟!. لا شك أن غرور القوة والثروة هو الذي يحكم السياسة الأمريكية ويدفعها إلى القيام بدور الفتوة الذي يريد أن يُخضع الآخرين بصرف النظر عن قيم الحق والعدل التي هي أساس الملك.. والتي بدونها لا يمكن لحضارة أن تدوم، حتى وإن انتصرت في جولة هنا أو هناك. وتدل الحروب الأمريكية الشرسة ضد أفغانستان والعراق، والقصف من حين لآخر في مواقع متعددة مثل باكستان، والصومال واليمن.. والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ.. تدل على أن الساسة الأمريكيين يسعون إلى أي «نصر» على أي «أحد» إرضاء للشعب المقهور؛ الذي صدق أنه يعيش في دولة الأمن والأمان.
ويبدو أن غرور القوة أصاب هؤلاء الساسة بالعمى والصمم وفقدان الذاكرة.. إذ لم يذكر التاريخ لهم نصرا ذا قيمة، خصوصًا في صراعهم المستمر ضد المسلمين. وإذا استعرضنا تاريخ أمريكا مع الحروب نجد أنها تمكنت بالفعل من إلحاق الدمار والخراب بمناطق كثيرة من العالم، ولكنها لم تحقق أهدافها إلا في النادر القليل. فإذا كانت- مثلاً- قد أخضعت اليابان باستخدام الإرهاب النووي غير الإنساني، فقد استطاعت اليابان أن تنتصر عليها اقتصاديًا، وسوف يأتي يوم ترد فيه على هذه الجريمة النووية البشعة. وفي فيتنام.. استطاع الشعب الفقير أن يهزم القوة الباغية الطائشة وأن يصيبها بعقدة فيتنام. أما في صراع أمريكا مع المسلمين فقد هُزمت شر هزيمة.. ولم تحقق أهدافها ولو مرة واحدة. فعندما وقفت بالمرصاد للثورة الإيرانية وناصبتها العداء دون داع، تحدي الإيرانيون أمريكا ورفضوا الخضوع.. وذهبت الطائرات الأمريكية تحت جنح الظلام تحمل أفضل وأقوى ضباطها للهجوم على طهران وتحرير الرهائن، لتفشل العملية ويُقتل كل المهاجمين وتنتصر إيران رغم الحرب الشرسة التي أدارتها أمريكا ضدها (من وراء ستار) لثمان سنوات!. وفي الحرب الأهلية اللبنانية.. تدخلت أمريكا ومعها ذيلها الإنجليزي لصالح الموارنة، وذهب أفضل ضباط وجنود الدولتين المغرورتين لاحتلال بيروت وبسط سيطرة الفتوة العالمي على الدولة الصغيرة الممزقة.. ولكن الشعب اللبناني المجاهد تصدى للقوة العظمى وأرغمها على الانسحاب المهين دون تحقيق أي غرض من أغراضها الدنيئة. وتكررت القصة نفسها في الصومال عندما ظنت أمريكا أن انهيار الدولة وعموم الفوضى سوف يمكنها من السيطرة على هذا البلد المسلم ليكون نقطة انطلاق إلى باقي المنطقة.. ولكن الشعب الأبيّ رفض الاحتلال، وفشل الجيش الأمريكي في حماية جنوده لينسحب ذليلاً مهزومًا. وفي اليمن وقفت أمريكا خلف الانفصاليين في حرب الانفصال وفشلت، وانتصرت الوحدة اليمنية.. وهم يحاولون الآن إعادة الكَرّة بوسائل المكر والخداع. وها هي تخرج كل ما في ترسانتها من أسلحة فتاكة ومعها كل شياطين الإنس في محاولة يائسة لتحقيق انتصار ولو ضئيل أو شكليً على المقاومة في أفغانستان (وقبلها العراق)، والتي لا تمتلك واحدًا في المليون من الإمكانات الأمريكية.. في حرب كانت كفيلة بإبادة جيوش ودول، ولكنها فشلت بفضل اللّه في كسر إرادة المقاومة الباسلة. وقد وقفت عاجزة أمام تنظيم القاعدة الذي لا يملك جيوشا ولا حتى أرضا تؤويه.. رغم التعاون الدولي والمخابراتي. وعندما انكشف ضعفها وبدت دلائل هزيمتها؛ بدأت الإدارة الأمريكية الفاشلة في البحث عن بديل آخر يحفظ ماء الوجه أمام شعبها بأن تشن حروبا بالوكالة، من خلال عملائها، وبدأت بالمقاومة الإسلامية فيلبنان من خلال العدو الصهيوني وفشلت، وهزم عميلها شر هزيمة، ثم انتقلت مرة أخرى إلى الصومال للثأر من الشعب المجاهد، من خلال عميل جديد هو إثيوبيا التي لها هي الأخرى أطماعها، وذهبت الطائرات الأمريكية لتقصف الرعاة الصوماليين المساكين المتحلقين حول النار للتدفئة، ولم تحقق أهدافها.. فهل أمريكا جديرة بأي انتصار?.. لا نظن!.
عندما بدأت أمريكا تدرك أن أسلوب الغزو والاحتلال لن يحقق أغراضها، وأن تفوقها المادي وامتلاكها لأحدث وأقوى أسلحة الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى سيطرتها المطلقة على الأنظمة المستبدة، لن يجدي نفعا أمام عقيدة الجهاد والاستشهاد التي مرغت أنف خيوشها بالوحل.. لم تستطع أن تتخلى عن أهدافها في إبعاد البديل الحضاري الإسلامي من طريق الحضارة الغربية التي بدت نذر أفولها، وفي استكمال الحرب الصليبية الحديثة، ولكن بأسلوب مخادع وغير مباشر. وقد رأى المخططون وصناع القرار أن هذا الأمر يحتاج إلى شخصية تبدو مختلفة عن جورج بوش وأمثاله من المحافظين الجدد، فوقع الاختيار على باراك حسين أوباما.. على اعتبار أن أصوله الإسلامية وبشرته السوداء يمكن أن تخدع الشعوب الإسلامية فتخفف من عدائها المطلق لأمريكا وتتخلى بالتالي عن أسلوب المقاومة. وللأسف فقد بلعت الأنظمة العربية الطعم، وصدّقوا أن أمريكا جادة في فتح صفحة جديدة، رغم تأكيد هذا الأوباما على متانة الارتباط بالكيان الصهيوني، ومطالبته لأصحاب الحق المغتصبة ديارهم بالتخلي عن مقاومة المحتل، وعدم مطالبته للمحتل الغاصب بالتخلي عن العنف والقتل والاحتلال. وكان لب المشكلة يكمن في الأنظمة العربية المستبدة المستأسدة على شعوبها والمستسلمة استسلاما كاملا لأمريكا وحلفها الصهيوني، والتي لم تكن لتجرؤ على رفض أوامر وتعليمات هذا الحلف الصهيوأمريكي؛ حتى وإن كان واضحا أن هذه الأوامر والتعليمات ضد الأمن العربي وضد المصالح العربية، بل وتهدد الوجود العربي ذاته. أما الآن وبعد الربيع العربي وبدء تحرر الشعوب العربية من الطغاة، المستسلمين لأعدائنا، فالواجب على الحلف إياه أب يعيد النظر في سياساته، وأن يدرك أن من مصلحته التعامل مع العرب من باب المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وصرف النظر عن أسلوب الهيمنة والاستغلال. وعلى الإدارة الأمريكية بصفة خاصة أن تدرك أن مصر الثورة استيقظت وتغيرت جذريا وأن السياسات الظالمة القديمة قد فات أوانها ولن تجلب لها إلا الخراب والمواجهة، وأن النصر لن يكون إلا للحق والعدل.
نقلا عن د.عبد الله هلال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق